مراسلة الشرق في غزة تروي قصتها خلال عامي الحرب

عربي ودولي
36
كل يوم يمر علينا في غزة أشبه بأعوام..
غزة
❖ غزة – ريما محمد زنادة
العالم يرى مرور عامين على «طوفان الأقصى» لكن حقيقة الأمر أن الحسابات مختلفة لأهالي غزة الصامدة الصابرة فهم يرونه أعواما عديدة، فكل يوم يمر كان أشبه بأعوام تحت قصف وابل الصواريخ، والأحزمة النارية والمدافع البحرية والاجتياح البري.
لم تكن حربا واحدة أو معركة واحدة؛ بل حروب خاضها رجال ونساء وأطفال وحتى أجِنَّة غزة، واليوم من داخل غزة أكتب شهادتي تحت القصف العنيف للمناطق الشمالية لقطاع غزة في انتظار وقف إطلاق النار. ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي سبق السابع من أكتوبر قبل عامين، حيث جهزت أوراق سفري منذ شهور فالسفر في غزة ليس أمرا سهلا.. لم أغادر غزة منذ وفاة والدتي – رحمها الله تعالى – قبل ما يقارب تسعة أعوام، فكنت بحاجة للسفر، بعد أن بقيت في غزة وحدي بدون عائلة، بعد وفاة والدي -رحمه الله تعالى- واستشهاد أخي الأكبر فادي.
اشتاقت نفسي لرؤية شقيقي سامر وأطفاله وشقيقتي رنا وطفلتها فجهزت حقيبة سفري، ولم يفصلني عن الذهاب إلى معبر رفح البري، إلا انتظار تاريخ موعد سفري الذي جاء بعد موافقة لجنة الاستعجال وشهور طويلة من الانتظار.
كانت أيام قليلة تفصلني عن مغادرة غزة.. وفجأة اندلعت الحرب لأجد نفسي أمام قرار صعب بين خيار السفر وبين البقاء. ولم يكن قرار البقاء سهلا خاصة وأنني فتاة عليها أن تواجه حربا جنونية وقاسية.. كنت أعلم أن «طوفان الأقصى» الذي هزم مقولة الاحتلال المزعومة بـ «الجيش الذي لا يقهر»، سيكون له ثمن باهظ.. وهو ما حصل بالفعل حيث بدأ القصف بشكل جنوني على قطاع غزة في مختلف المناطق.. ولم أكن مثل الكثير، من أهل غزة، أعلم إلى أين أذهب أو أين يكون الأمان.. كل مكان مستهدف من الاحتلال.. ثم بدأت رحلتي مع النزوح والانتقال من مكان إلى آخر، لكن كل مكان نلجأ إليه نشهد فيه أعنف القصف كأنه اليوم الأول للحرب.
لم يكن الأمر سهلا، لكن كنت أشعر أن معية الله تحفني وأن الله تعالى يمدني بالقوة والصبر لمواصلة المسير. ولم أتوقع أن النزوح سوف يطول فكل ما حملته معي مصحف والأوراق المهمة وقليل جدا من الملابس التي التقطتها يدي سريعا بعد قصف المنطقة التي أسكن فيها.
وبعد رحلة طويلة من التنقل المستمر، استقر بي المقام مع بعض الأقارب في منزل مهجور تجاوز عمره المائة والخمسين عاما ويفتقر لأبسط الأشياء.. ومع ذلك حاولت التأقلم قدر المستطاع.. وكلما ضعفت استمسكت بالقرآن الذي كان ولا يزال مؤنسي.
مضت شهور أصبح الجو أكثر برودة ولا يوجد ملابس دافئة فلم أكن أملك إلا الجلباب الذي أرتديه وقطع قليلة جدا من الملابس كنت أتناوب بغسيلها فلا بديل عن ذلك ولا يوجد أمان للعودة للبيت لأخذ ملابس أو الذهاب لشراء بعضها فالقصف في كل مكان، بينما أخذ الطعام بالنفاد شيئا فشيئا فالأيام التي كنا نظنها قليلة استمرت شهورا طويلة وما زالت. كانت الساعة قاربت على العاشرة ليلا فإذا بالقصف قريب جدا الأمر الذي جعل حجارة المنزل الذي تواجدت فيه تسقط على رؤوسنا والمكان شديد الظلام أخذت أنطق الشهادة وأتلو آية الكرسي شعرت أنها النهاية، لكن بفضل الله تعالى وبرحمته لطف بنا.. نجونا جميعنا إلا من بعض إصابات طالت بعضنا وتم إسعافها. هذا القصف دفعنا لمغادرة الشمال، بينما قرر البعض البقاء.. لكن ما إن انتقلنا ليلتها وأخذنا بالتقاط الأنفاس حتى جاءنا الخبر الفاجع باستشهاد عشرة من أقاربي بعد أن جرى قصف المنزل على رؤوسهم.
ومع التنقل المستمر من منطقة إلى أخرى، من باب الأخذ بالأسباب، وصلت ذات مرة إلى منطقة لم تكن تتوفر فيها شبكة للتواصل.. كنت أشعر وقتها بألم كبير وأنا أتساءل كيف سأخبر شقيقي وشقيقتي أنني بخير؟ ومرت أيام طويلة بدون أي تواصل وفي إحدى الليالي نظرت إلى هاتفي النقال فوجدت ظهور إشارة الإرسال لم أصدق الأمر بداية.. أرسلت رسالة قصيرة إلى شقيقتي كتبت فيها «الحمد لله أنا بخير» وبالفعل وصلت الرسالة، لكن بعدها اختفى الإرسال.. كانت تلك إحدى اللحظات التي لا تنسى والتي شعرت فيها بأن الله (عز وجل) بلطفه معي.
ما كنا نستريح في مكان النزوح، إلا ويبدأ وابل من الصواريخ.. وحينما كنت في منطقة قريبة جدا من مستشفى الشفاء كان هنالك قصف وصراخ ونزوح وقتها شعرت بالخوف لكن ما عساني أفعل؟.. ثم وجدت نفسي أمسك مصحفي وأتلو شيئا من آياته.. غمرتني السكينة والهدوء خاصة مع هطول الأمطار التي بعثت في قلبي الأمان. كلما زادت أيام الحرب كلما شحت المواد الغذائية وارتفعت أسعارها.. كثير من الطعام لم أتناوله منذ قرابة العامين حتى حينما يتم تداول الحديث عن دخول شاحنات من الخضار فإنني أكتفي برؤيتها لا أكلها لارتفاع ثمنها، كل الأشياء أصبحت شحيحة وغالية. حينما اشتكيت من ألم في الأذن، لم أجد حلا سوى الاتصال بأحد أقاربي خارج قطاع غزة لأطلب منه بأن يذهب لطبيب حتى أستطيع التحدث له ويصف لي العلاج.. أسعار الأدوية، إن وجدت، ارتفعت بشكل يعجز عنه الكثيرون.
حتى الماء أعلم أنه قد لا يكون نظيفا وبالفعل أصابتني وعكة صحية منه لكن لا بديل أمامنا غيره ذلك لا يجعلني أشربه مطمئنة إلا إذا تلوت عليه سورة الفاتحة. منذ عامين أصبحت لا أعلم ماذا يعني كهرباء؟! وعملية شحن الهاتف النقال والمصابيح الصغيرة تكون من خلال تواجد أماكن للشحن يتوفر فيها ألواح طاقة شمسية. الغاز لم يكن أحسن حالا فقد غاب مع غياب الكهرباء، ولا سبيل سوى استخدام الورق والحطب لإشعال النار.
أكثر من مرة قطعت الكتابة جراء القصف ومحاولة الاطمئنان على بعض الأقارب والصديقات. توقفت عند رسالة من إحدى صديقاتي التي أخبرتني بأنها محاصرة في منطقة شمال قطاع غزة حيث الدبابات والقصف متواصل. وتبع ذلك خبر استشهاد شقيق إحدى قريباتي بعد أن استشهدت أخواتها الخمسة، وشقيقها وعائلته. أصبح وداع الشهداء في غزة مستحيلا، فلا وقت للوداع.. كل الأماكن غير آمنة مما يجعل الحاجة للدفن في أي مكان قريب تتطلب السرعة حتى وإن اقتضى أن يكون بجوار ركام المنزل. كثير من أقاربي وصديقاتي لم أعلم باستشهادهم إلا بعد شهور من ارتقائهم.
أشعر أنني أحتاج كلما ألتقي بإحدى قريباتي أو صديقاتي إلى احتضانهن كلما رأيتهن فلا مجال للسلام العابر، لأنها قد تكون المرة الأخيرة التي أراها في هذه الدنيا. أكتب هذه الكلمات وأنا نازحة لا أعلم كم عدد المرات التي نزحت بها.. هذه المرة غادرت البيت رغم ما أصابه، وإلى الآن لا أعلم ما حل به فقد دمرت المنطقة التي كنت أسكنها، حل بها دمار هائل ومصير كل من كان يقترب منها الشهادة..
من الصعب أن أختزل قصة عامين تحت الحرب، في هذه الكلمات القليلة.. وهي ليست عامين، بل سنوات لا تعد، لكن إيماننا العميق بأننا أصحاب حق في هذه الأرض يعزز صمودنا، ونظل نتمسك بالدعاء بأن يطفئ الله تعالى هذه الحرب بنور من نوره.
مساحة إعلانية